Sunday, November 07, 2010

اليتم القديم


اليتم القديم كالجرح القديم، مُعرض للفتح والنزف طوال الوقت، لذلك لم يمت أبي اليوم فقط .. ولكنه كان يموت كل يوم أبحث فيه عنه ولاأجده ، كجرح غائر في صدري ما يكاد يندمل حتى يعود لينزف من جديد، اليوم مات أبي ، مات حقيقة لا إدعاء كما كنت أكذب في حياته انتقاماً لتخليه عني، فارق الحياة وحيداً كما اختار أن يحياها وحيداً دوننا، وانا هنا في النصف الآخر من الكرة الأرضية ، مقيدة إلى كرسيّ ومنجذبة في ترقب إلى شاشة الكمبيوتر أنصت لرنات التليفون التي تعود بلا إجابة ظهيرة يوم كان مشمساً رغم برودته وأصبح غائماً عندما جائني الخبر، يوم صحوت فيه على حلم أبطاله هم عائلتي في مصر، لأخبر زوجي برغبتي في شراء بلوفر صوفي أسود دون أن أعلم إنني سأرتديه على أبي


مقيدة هنا تجلدني الذكريات ، تنهال كسياط على ظهري ورأسي وأصابعي التي تحولت إلى وسيلة التنفيس الوحيدة عن حزني ... بالكتابة 
... كتابتي .. التي لم يقرأها أبي يوماً أو يهتم بها... كل ما يعرفه هو حلمي عندما كنت صغيرة في أن أكون صحفية وابتسامته التي طالما باركت خطواتي عندما كنا نتقابل مرة كل عدة أعوام 


لم يكن أبي مهتماً فلم يجد من يهتم به، مات وحيداً ومر عليه يومان وعرف الجيران بموته فقط من الرائحة، مات أبي في شقته كالغرباء، كما عاش حياته كلها كالغرباء، بالأمس كان يوجعني غيابه في حياته الآن يوجعني حضوره بهذا الشكل في مخيلتي بعد موته بملامحه الطيبة المرحة التي كانت تشبه كثيرا ملامح محمود عبد العزيز، كنت كلما ابتسم أعرف جيدا السبب الذي جعل أمي تقع في غرامه وتتسرع و تتزوجه في 13 يوم، لتندم بعدها سنوات وسنوات،  وكلما نظرت لعينيه أعرف لما كانت أمه – جدتي – تسميه في صغره بـ محمد الجميل ، كما كان دائماً يحكي بتفاخر، أحببتك يا أبي وإن كنت دائما أظهر غير ذلك، أحببت تلك السنوات القليلة التي عشتها معك وأوجعني ألا تدوم ، أحببت هروبي إلى حضنك والسهر معك عندما كانت تجبرني أمي على النوم ، أحببت يدك وأنت تمررها على شعري وتقرأ المعوذتين، أحببتك ولم أستطع أن أكرهك يوما واحداً ، بسبب ما فعلته بنا وبنفسك وربما لو استطعت أن أكرهك ..


لاسترحت


واليوم اتمني لو أسامحك وتسامحني عن كل ما اقترفناه في حق بعضنا البعض وفي حق أنفسنا، سامحني يا أبي لن أستطيع أن أدفنك لأنني مقيدة إلى كرسي في الجانب الآخر من الكرة الأرضية ، سامحني يا أبي لن أستطيع أن أجمع صورك وملابسك وأشياءك القريبة إلى قلبك وأحتفظ بها كما تفعل كل البنات الوفيات لآبائهن ، سامحني لأني لم اكن تلك البنت القادرة على النسيان والغفران وإني أدعيت كثيراً في السابق موتك لكي لا أقص قصة غيابك وقصتنا معك.


سامحني يا أبي لأنني كنت أكذب أحياناً وأشعرك إنني لا أحبك ، والله لقد أحببتك وهذا ما أوجعني ... هذا ما يجرحني الآن .. أكثر من أي شئ آخر ، أن تموت إبتسامتك ليومين ولا يدركها أحد، ابتسامتك التي لطالما توجتها ذقنك التي حببتني في كل الرجال ذوي الذقون الذين قابلتهم في حياتي، سامحني يا أبي لن أستطيع أن أحتفظ بصورة عبد الناصر المعلقة في غرفتك، ووسام نجمة سيناء الذي حصلت عليه بعد حرب 73 عندما كنت بفرقة المظلات، صورتك في عمر الأربعين بتلك النظرة المحببة التي تخترقني من كل الإتجاهات، سامحني يا أبي .. يوجعني تخيل البوليس يقتحم البيت ... والناس يسدون أنوفهم إتقاءا لرائحتك ... يوجعني أن أتخيلك عرضة للتشريح والطب الشرعي لتبين أسباب الوفاة ...

 رجل مات من الوحدة ... بعد أن قتل كل أحبته بإبعادهم عنه  ...

ما أقسى الحياة وما أقسانا؟

 سامحني يا أبي

فلقد سامحتك 

وليسامحنا الله جميعاً  


7-11-2010

مونتريال